{الم} الكلامُ فيه كالذي مرَّ في أمثالِه من الفواتحِ الكريمةِ {غُلِبَتِ الروم * فِى أَدْنَى الارض} أي أدنى أرضِ العربِ منهم إذ هيَ الأرضُ المعهودةُ عندهم وهي أطراف الشَّامِ أو في أدنى أرضِهم من العربِ على أنَّ اللامَ عوضٌ عن المضافِ إليهِ. قال مجاهدٌ: هي أرضُ الجزيرةِ وهي أدْنى أرضِ الرُّومِ إلى فارسَ. وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: الأردنُّ وفلسطينُ. وقرئ: {أدانِي الأرضِ} {وَهُمْ} أي الرُّوم {مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ} أي بعد مغلوبيَّتهم. وقرئ بسكونِ اللامِ وهي لغةٌ كالجَلَب والجَلْب {سَيَغْلِبُونَ} أي سيَغلِبون فارسَ {فِى بِضْعِ سِنِينَ} رُوي أنَّ فارسَ غَزَوا الرُّومَ فوافَوهم بأَذْرِعَاتٍ وبُصرَى وقيل: بالجزيرةِ كما مرَّ فغلبوا عليهم، وبلغ الخبرُ مكَّة ففرح المشركون وشمِتُوا بالمسلمينَ وقالُوا: أنتُم والنَّصارى أهلُ كتابٍ ونحن وفارسُ أميُّون وقد ظهر إخوانُنا على إخوانِكم فلنظهرنَّ عليكم، فقال أبُو بكرٍ رضي الله عنه: لا يقْرِرِ الله أعينَكم فوالله ليظهرنَّ الرومُ على فارسَ بعد بضعِ سنين، فقال له أُبيُّ بنُ خَلَف اللَّعينُ: كذبتَ اجعل بيننا أجلاً أناحِبُك عليه فناحبَه على عشرِ قلائصَ من كلَ منهُما وجعلا الأجلَ ثلاثَ سنينَ فأخبر به أبُو بكرٍ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ: «البضعُ ما بين الثَّلاثِ إلى التِّسعِ فزيدُوه في الخطرِ ومادِّه في الأجلِ» فجعلاها مائةَ قلوصٍ إلى تسعِ سنينَ ومات أبيُّ من جرحِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وظهرتِ الرُّوم على فارسَ عند رأسِ سبعِ سنينَ وذلك يومَ الحديبيةِ، وقيل: كانَ النَّصرُ للفريقينِ يومَ بدرٍ فأخذَ أبُو بكر الخَطَر من ذريَّةِ أبيَ فجاء به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ: «تصدَّق به». وكانَ ذلك قبلَ تحريمِ القِمارِ. وهذه الآياتُ من البيِّناتِ الباهرةِ الشَّاهدةِ بصحَّةِ النُّبوةِ وكونِ القُرآنِ من عندِ الله عزَّ وجلَّ حيثُ أخبرتْ عن الغيبِ الذي لا يعلمُه إلا العليمُ الخبيرُ. وقرئ: {غَلَبت} على البناءِ للفاعلِ وسيُغلبون على البناءِ للمفعولِ والمعنى أنَّ الرُّوم غلبتْ على ريفِ الشامِ وسيغلبُهم المسلمونَ وقد غَزَاهُم المسلمون في السَّنةِ التَّاسعةِ من نزولِها ففتحُوا بعضَ بلادِهم، فإضافةُ الغَلَب حينئذٍ إلى الفاعلِ.{لِلَّهِ الامر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} أي في أولِ الوقتينِ وفي آخرِهما حين غُلبوا وحين يغلِبون، كأنَّه قيل: من قبلِ كونِهم غالبينَ وهو وقتُ كونِهم مغلوبينَ ومن بعدِ كونِهم مغلوبينَ وهو وقتُ كونِهم غالبينَ والمعنى أنَّ كلاًّ من كونِهم مغلوبينَ أولاً وغالبين آخراً ليس إلا بأمرِ الله تعالى وقضائِه {وَتِلْكَ الايام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} وقرئ: {من قبلِ ومن بعدِ} بالجرِّ من غيرِ تقديرِ مُضافٍ إليهِ واقتطاعِه كأنَّه قيل: قبلاً وبَعْداً، بمعنى أولاً وآخِراً {وَيَوْمَئِذٍ} أي يومَ إذْ يغلبُ الرُّومُ على فارسَ ويحلُّ ما وعدَه الله تعالى من غلبتِهم {يَفْرَحُ المؤمنون}.